الأديبة التونسيّة "تبر العرباوي" تكتب: كان يوما ...غير كلّ الأيّام!
كان يوما غير كل الأيام ... يوما فارقا , يوم رحل البحر .
ضحى و زوارق الصيادين تنتشر على أديمه , و سفن التجار تمخر عبابه ... انتفض ... ثم انتفض ... نعم انتفض و سحب أمواجه و طواها على بعضها جبالا من المياه الهادرة ... و استمرّ يطويها , و تعظم الجبال , حتى لم يعد أحد يفرّق بين الماء و السماء و اختفت الشمس كأنما يوم عاصف اسودّت غيومه و ابتعدت نجومه , ثم زحفت الجبال بعيدا ... و أطلّت الشمس لتكشف عن صحراء لا متناهية خلّفها البحر .
رحل البحر و تبعه عويل الصيادين و نواحهم , و هام بعضهم في أثره دون عودة , بينما نصب الآخرون زوارقهم خياما في انتظاره .
كبير الصيادين قال : أنّه رأى سيد البحر غاضبا يشير إلى الموج بالارتحال .
هام الصيادون , يجمعون الأصداف , يعلّقونها تمائم و يبنون بها صوامع صغيرة و يتخذون منها أبواقا , يرسلون بها تراتيل لسيد البحر , يستعطفونه كي يعود ...و ينامون مناجين النجوم , يناشدونها أن تخبرهم إلى أين رحل ؟ و هل هو غاضب منهم و يأتي كبيرهم كلّ صباحهم ليجمعهم و يقصّ عليهم رؤياه ...
رأيت سيد البحر يشق جبال الأمواج و يستوي فوقها جبلا مثلها, ينظر لي ... عيناه زورقان من فضة و زمرّد ... ثمّ يقهقه و يبصق في وجهي و يختفي .
أحدهم و أحد شيوخهم الذين علّموهم الصيد و سكبوا البحر في جوارحهم و كانوا يدعونه راهب البحر , يجمع الأصداف كلّ صباح و يغنّي ألحانا شجية يحسبها الصّيّادون بالبكاء و النّواح.
يا غربة البحر إلى أين ذهب
يا غربة الصّيّاد كم دمعا سكب
و ذا الرمل حنّ لمائه و اشرأب
صار كثير من البحّارة يسمعون أصواتا غريبة و بعضهم زارته سيدة البحر .
كوالدها , كانت عيناها زورقان من فضّة و زمرّد , لكنّ شعرها لم يكن من طحالب البحر مثله , إذ أكّد كل الصيّادين الذين رأوه , أنّ لحيته و شعر رأسه كان طحالب بحرية , أمّا ابنته , فكان شعرها موجة طويلة , تتراقص فيها نجوم البحر و قناديله ...
كانت جميلة جدّا , لذلك ظلّ الصّيّاد فاغرا فاه و لم يستطع أن ينبس بكلمة ... رمقته طويلا ثمّ استلقت على شعرها ... موجتها المزركشة , و رحلت ...
يا غربة البحر إلى أين رحل
يا غربة الصّيّاد يشجيه الطّلل
يا عجز ذاك الرمل تعوزه المقل
كان الرّاهب يناجي محراب أصدافه و ينشج , حين تقاطر الصّيّادون فزعين .
أرجل غريبة , تتهافت على بحرنا , تقصد ما تركه لها البحر .
استدر الرّاهب و إذا بالبدو قد حطّوا رحالهم , و كثير من الناس يحملون أدوات و يذرعون صحراء البحر , يقيسون و يتحاورون .
تقدم منهم كبير الصّيّادين و راهبهم , يحفّ بهما الرّجال الحزانى المتعبون ... و سألوهم عمّا يفعلون ؟
قيل سنوسّع المدينة , و قال البدو : الصّحراء لنا تنادينا أينما كنّا.
حاولوا منعهم و لم يقدروا ... ثمّ شبّ شجار بين البدو و الآخرين , و انكفأ الصّيّادون على حلمهم , يناجون البحر .
فجأة صرخ الرّاهب : كانت هنا رأيتها و سمعتها .
هبّ الّصيّادون يسألونه ماذا قالت ؟
قال : نظرت إليّ مليّا حتى تجمدت و قالت :
لست بحارا ... كن بحارا .
إرسال تعليق
0 تعليقات