«النهاية» قصة للكاتب المغربي: نجيم العامري
كانت تشير إلى الحادية عشر ليلا، كنت عائدا إلى المنزل،خائر القوى و فاقد الشعور بذاتي، بالكاد تقوى قدماي على حملي بعد يوم عسير أبت ساعاته الطوال أن تنتهي. كان الليل قد ألقى عباءته السوداء على المدينة ليغط سكانها في نوم هادئ.
وضعت رأسي على الوسادة لأحظى أنا الآخر ببعض الهدوء و الراحة، و بالفعل نمت بهدوء و سكون مرتاح البال. رأيت في المنام سيارة إسعاف، و أخذ صوتها يعلو و يتردد في أذني شيئا فشيئا، لدجة أنني استيقظت عليه.. كان الصوت حقيقيا. حاولت جمع شتات أفكاري و سرعان ما عاد إلي وعيي لأعي وجودي في العالم الحقيقي. لقد كانت بالفعل سيارة إسعاف تجوب المكان بجانب منزلي، فهرولت مسرعا نحو النافذة لمعرفة ما يحدث خارجا، فإذا بسيارات الشرطة و الإسعاف تجوب الشارع، و فوجئت بالناس تجري و تهرول في كل الإتجاهات،الوضع غريب و حالة من الفوضى الرهيبة تعم المدينة، هرج و مرج في كل مكان، ارتديت قميصي مسرعا و خرجت راكضا إلى الشارع في محاولة لفهم ما حل بالعالم فجأة هكذا و كلي حيرة و غرابة.
من بين الضجيج و الإزدحام الحاصل و الحرائق التي كانت تعم المكان وصوت الصبية الذي اخترق طبلة أذني، وقفت كالصنم متسمرا تجول بخلدي علامات استفهام و تعجب كثيرة.. وبينما أنا في هذه الحالة من الشتات و الحيرة اصطدم بي أحدهم من الخلف لأسقط على الأرض، رفعت عيناي لأرى من يكون. كان الوجوم يسكن ملامحه، وجه شاحب و عينان شاخصتان،أرى فيهما مدى الرعب و الخوف اللذان يقبعان داخلهما. وقفت مسرعا و سألته: ما الذي يحدث هنا؟. هرب راكضا دون أن ينطق لسانه المتخشب بكلمة من شدة الهلع .التفت يمينا وشمالا، لأرى أطفالا صغارا في كل مكان يستنجدون، لكن بمن؟، يبدو أنهم تركوا لوحدهم هنا، لكن السؤال الذي اجتاح ذهني في تلك اللحظة، أين أمهاتهم و آباؤهم؟ يتكرر نفس المشهد مع كل من أحاول أن أستفسره عما يحدث، الكل يركض هرعا بشكل عشوائي ولا يلتفت لغيره. بقيت في الشارع متصنما مكاني عاجزا عن استيعاب ما يحدث حولي. ما كل هذه الفوضى؟ ما الذي يحدث؟ أأنا العاقل الوحيد هنا يا عالم؟.
فجأة، لمحت قرب أحد الأعمدة فوق الرصيف على الجانب الآخر من الشارع عجوزا يتكئ على عصاه، هالة من الهدوء و الطمأنينة تحيط به، وكأنه غير مكترث بكل هذا العويل و النحيب حوله، فذهبت راكضا نحوه:
يا عم..ما كل هذا؟ ماذا يحدث؟؟
نظر إلي وقد ألهم الطمأنينة، وبعد مدة أحسست أنها ساعات قال:
-سينتهي العالم يا بني، فلا داعي للهرب.
كانت كلماته القليلة كافية لرفع الغطاء عن مئات الأسئلة المحيرة التي جالت بذهني آنذاك:
-مم.. ماذا!؟؟ ..لا أفهم، ماذا تعني بقولك نهاية العالم !؟؟.
فعاد لصمته و لم يجب. في هذه اللحظة تحرك بداخلي شعور بالخوف و الذعر، أخذت أنفاسي تتسارع و معها نبضات قلبي الذي كاد يتوقف من هول ما تراه عيناي و ما تسمعه أذنياي.تشابكت الأفكار في ذهني و تشجارت و بت عاجرا عن تصديق كل هذا، فرحت أبحث بين الأنقاض عن فكرة ما، لعلها تخلصني من هذا العذاب، و تنتشلني مما أنا قابع فيه أو على الأقل أن أفهم ما يجري، لكن يا أسفاه، خاب ظني.. فجأة خطرت بخلدي فكرة، سأتصل بكل من أعرف أو تجمعني به قرابة ليطمئنني و يطبطب بكلماته الشافية على فؤادي، ويمد إلي بيده ليخرجني من الجب الذي أنا غارق في ظلمته و عتمته. لكن المفاجأة، كل الخطوط مغلقة ولا أحد يرد، هل ماتوا؟ أم ماذا حل بهم؟
أحسست بقطرات دافئة تلامس بشرتي.. إنها تمطر. ما لبثت حتى بللت الأرض بالكامل.. رفعت عيناي للسماء في يأس شديد راجيا أن يأتي هذا الغيث الغزير بنور من السماء فينجلي هذا الظلام الذي تهت بين ثناياه.عدت مطأطأ الرأس إلى المنزل، أتخبط في حيرة و وجوم. دخلت غرفتي و أغلقت الباب، وألقيت بجسدي فوق السرير كالصخرة حين تهوى في مياه النهر. أشعلت التلفاز في محاولة لخلق بعض الفرجة و كأني أحاول أن اقنع نفسي-التي أبت أن تقتنع- أن كل ما يجري ليس إلا إحدى تلك الكوابيس التي كانت تزورني بين الفينة و الأخرى، لكن ما يجري بالخارج و كل هذه الضوضاء و الصراخ أكثر من أن يكون مجرد كابوس.
كانت إحدى القنوات الإخبارية التي تبث خبرا حصريا و مباشرا، يتحدث المذيع فيها عن أحد الأجرام المجهولة الذي ظهر فجأة من العدم و.. بلا بلابلا... أهذا وقت المزاح؟ يا للتفاهة. كدت أن أغير القناة لكن ما مر على سمعي جعل كل خلية في جسدي ترتعش فجأة و بقيت متصنما مكاني لا أقوى على الحراك.
" إن الجرم السماوي المجهول يقترب بسرعة خيالية، أكثر من السابق ومن المحتمل أن يصطدم بكوكبنا في غضون ثلاثين دقيقة ، و تؤكد وكالة ناسا -في بيان صدر للتو – أن قوة الإصطدام قادرة على إفناء الأرض و ما عليها..إنها النهاية"
ممم... ماااذا.. جرم سماوي..ظهر بغتة!! .. نصف ساعة.. أهذا يعني أن كوكبنا على شفى حفرة من أن يفنى و يصير غبارا ، ولم يتبقى إلا نصف ساعة على ذلك.. لكن كيف؟؟ و.. لا أفهم..
عاد الذعر ليسكن كل ضلوعي، و أخذ الخوف يقتات مني شيئا فشيئا، لكن مهلا، ما هذه الرائحة.. إنها رائحة الموت .. هي الوحيدة التي صرت قادرا على تمييزها.. تدنو.. و تدنو، إني أشمها.. الآن فقط اتضحت الصورة و أصبحت الرؤية واضحة غير مشوشة. لا عجب أن القوم يهرعون و يستنجدون. تخلت الأم عن أولادها الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة، و الأب يسير شاحب الوجه ضاما يديه إلى صدره ، صاحب التاج المرصع بالألماس تخلى عن عرشه و تاجه، حامل أكياس الأموال المسروقة ألقى بها في النهر و هرب. .و السؤال إلى أين؟ أين المفر؟ ..تترنح الناس في الشوارع يمينا و شمالا ، تراهم سكارى و ما هم بسكارى. ثلاثة أشخاص لا زالوا بكامل وعيهم، مذيع الأخبار و من المحتمل أنه ألقى بنفسه من الطابق العاشر ليلقى حتفه أو ربما أصابه الجنون، والعجور عند الرصيف في الشارع الذي لم يبد أي رد فعل رغم أن نهايته أضحت قريبة ، معه حق.. لما الهروب و إلى أين ؟ فالعالم عما قريب سيمحى في لمح البصر و لن يبقى منه إلا الأشلاء ..هذا إن بقيت. و الأخير أنا ..هنا.. و أرى أني أفقد آخر ما تبقى لي من ذرات عقلي.
نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط المقابل للسرير، تمر الدقائق كالبرق الخافت. هل أتصل بوالدي، لكن ماذا سأقول لهما؟ أأذهب لرؤيتهما، لكن لا أستطيع تحمل رؤيتهما يبكيان، تلك الدمعات ستكون كالحمض إن سقطت، سأحس بغليانها داخلي.. في فؤادي. رفعت عيناي مرة أخرى نحو الساعة، لم يتبقى سوى عشر دقائق. ماذا أفعل؟ هل أبكي؟ لكن ما فائدة البكاء في مثل هذه الظروف. هل أكتب وصية؟ لكن ماذا سأكتب فيها ؟ ولن يبقى أحد على سطح هذا الكوكب ليقرءها بعد موتي.. أقصد فناءنا.
أغمضت عيناي ..وضعت يداي على وجهي في استسلام تام. فجأة، بدأت أسمع وقع خطوات آتية في اتجاه غرفتي، لا أريد فتح عيناي إنه ملك الموت بلا شك، يزداد وقع تلك الخطوات مع اقترابها، فتح الباب بعد لحظة، ففتحت عيناي في هوان شديد لأرى شخصين شامخين يسطع النور منهما، لم أستطع رؤية ملامحهما جيدا، فالنور قد أعمى عيناي، اقتربا مني وهمس أحدهما في أذن الآخر بكلمات لم تلتقط أذناي منها إلا عبارة :
"إنه المختار" ، لم أفهم أبدا عن أي شيء كانا يتهامسان، إلى أن دخل شخص ثالث قطع تيار جريان الأفكار بخلدي،وبدا وكأنه يحمل شيئا ما بيده اليمنى.. دنا أكثر ناحيتي ليتضح لي بعد فينة أنها محقنة، وسمعته يقول:
-أمسكاه جيداً.
ثم وضع إبرة المحقنة على معصمي و أعطاني حقنة، أحسست بوخز طفيف ثم بدأت أفقد وعيي تدريجيا لأغط في نوم عميق..
فتحت جفوني بعدما أفقت من تلك الغيبوبة التي ربما دامت أياما أو أسابيعا أو ربما كانت شهورا، لم أستطع استشعار الزمان وأنا فاقد للوعي، كما لم أعرف ما حدث ، لأجدني فجأة على أرض أخرى.. أرض لا تبدو مألوفة أبدا.
تجولت بعيناي في الأرجاء.. يعبق المكان برائحة طيبة ، ترتدي الأرض حلة خضراء و النور يغشى كل شيء، أناس كثيرون مجتمعون هنا و هناك، يطغى الهدوء و الطمأنينة و أوجه الملإ باسمة مستبشرة، ترتسم الفرحة على ملامحهم.. المكان غريب هنا، لا أقوى على استيعاب ما يجري، ما الذي حدث فجأة؟ كأننا على كوكب آخر، كنا على شفى حفرة من الهلاك فإذا بي بين فينة و أخرى أجدني ..هنا.. و الغريب في الأمر، أن الناس منشغلين بأنفسهم و عائلاتهم وكأنهم نسوا ما حدث قبل قليل أو.. ربما العام الماضي، فأنا لا أدري. لكن الجانب الجيد أن كل ذاك الخوف الذي قبع داخلي انجلى فجأة، أفل كل ذاك الهول الذي أجفل خاطري آن ذاك.. أشعر.. أحس.. لا أدري لكن.. أحس وكأن كل شيء قد اختفى في لمح البصر، كل ذاك الضيق قد انفرج فجأة، أشعر.. بشيء من الطمأنينة.. الكثير من الطمأنينة.
السلام عليكم.
دون وعي وجدتني أرد السلام " وعليكم السلام و رحمة الله تعالى وبركاته " ، نطقت بها شفتاي تلقائيا و كأني فقدت إرادتي لوهلة، التفت لأرى صاحب الصوت فإذا بي أدهش بمن التقطته عيناي، إنه هو!.ذاك العجوز عند الرصيف، لا زلت أتذكر ملامحه جيدا.. إنه هو. خطا خطوتين ثم دنا من أذني وأحنى رأسه كأنه يود قول شيء ما :
لقد سبق وقلت لك يا بني ما من داع لهروبنا، طوبى لنا يا بني.. طوبى لنا.
** ** ** **
تسللت أشعة الشمس الذهبية في حياء من النافذة إلى غرفتي، و انعكست على المرآة المقابلة للجهة التي كنت نائما عليها لتسقط على عيناي، كأنها تدغدغني و تقول لي : "قم من عندك لقد انتهى وقت الخمول و الكسل.. قم ". انقلبت في فراشي للجهة الأخرى ناظرا للساعة المعلقة على الجدار بعينين نصف مغلقتين.. إنها العاشرة.
قمت من مرقدي و توجهت نحو النافذة، تغمرني مشاعر جامحة لا أستطيع لها وصفا أو تفسيرا، لكن الشيء الأكيد هو أني أشعر بسعادة غامرة قد ارتشفت منها كل خلية بجسدي.. فتحت النافذة ، ليهب نسيم ناعم ، داعب شعري الأشقر ليتراقص في الهواء، بعده تسربت نفحات أخرى لتلامس وجنتاي لتشعرني بحاجتي الشديدة لفنجان قهوة ساخن. بقيت أمام النافذة شاردا، أجتر كل ما مررت به من أحداث أثناء تقلبي في الفراش ليلا ذات اليمين وتارة ذات الشمال..
إرسال تعليق
0 تعليقات