«سجين معتقل كورونا» قصة للكاتب: المصطفى صباني




   استيقظ متأخرا كعادته ما بعد العصر، شرب لبنا منتظِرا أن يتسع مخرجه لإفراغ أمعائه، ويحتسي بعدها قهوته ليسترد صحوه استعدادا لطوافه المعتاد على الخمارات حتى انبلاج الصبح. وهو يعد نفسه للخروج؛ سمع عبر مكبر الصوت "التزموا بيوتكم ولا تخرجوا إلا نهارا وبترخيص من السلطات الوصية". انتابه لحظتها فرح لم يجد له سببا موجبا للتفسير رغم تقليبه في ثنايا نفسه عن مصدره، لكن حامت برأسه وساوس وظنون ألجمت سروره. لام نفسه بعدها، وضرب بيده على جبهته لتخلفه عن معرفة ما حدث. ليس له تلفاز ولا مذياع ولا حتى هاتف جوال يسعفه في فك لغز الحظر. أطل برأسه من النافذة، سكون جاثم، كأن عاصفة كتمت بريحها كل صوت جهور. "هل استيقظت فاس بعد طول سبات؟ أم  ضاقت صدور الناس ذرعا فخرجوا يكسرون ويحرقون كل ما صادفوه في طريقهم حتى فُرض عليهم حظر التجوال نهارا وليلا".
خذلته ذاكرته المشوشة بسحائب أدخنة السجائر وروائح الخمور والعطور والعرق الخانق في الزوايا المظلمة لحانات المدينة الكئيبة. أطل من نافذته ثانية لعله يرى دخان حرائق أو يسمع صوت تراشق نار أو صليل حديد دبابات تصول الشوارع أو عويل مصاب أو يرى مشاة يصوبون بنادقهم نحو صدور عارية. لم ير غير بنايات صماء ذات طلاء شاحب وشجيرات يتيمة أضناها النحول. شك في أمره، أيكون نائما في سريره وهو يعيش كابوسا مرعبا، أم أنه أستيقظ ومازال يتعتع سكرا، أسرع نحو الصنبور، فتحه حتى امتلأ حوض الماء، فغطس فيه رأسه، أطال النظر في المرآة والماء يسيل على وجهه، تأكد أنه الشخص ذاته وليس ذلك السكير الذي نام على سريره البارحة ولا ذلك الذي كان يجري في حلمه. خرج من الشقة طفقا يطرق باب طلبة يسكنون بجواره. لا أحد يرد، قال مع نفسه إن الشرطة اعتقلتهم وهم الآن مصفدو الأيدي ومعصوبو العيون، معلقون بسلاسل متدلية من السقف. قرر على مضض أن ينزل الدرج، ويطرق باب الملتحي الذي يصادفه نازلا فجرا وهو ينظر إليه شزرا لحظة صعوده المترنح.           
ـ أنا محسن الذي يسكن في الطابق الثاني، أرجوك، أخبرني لِمَ يمنعون الخروج؟
من وراء الباب رد عليه وهو يرعد ويزبد:
ـ كورونا يا لعين، ألم تسمع بكورونا، لعنة الله عليك وعلى أمثالك، سلطتم علينا البلاء بكفركم وجحودكم.
   قفل راجعا إلى شقته حائرا في أمر لقب هذا الزعيم الجديد الذي لم يسمع به من قبل، وكيف غاب عن ذهنه لقب كورونا الحركي؛ وهو لا يكف عن ترديد أسماء الزعماء الذين قاسمهم الزنزانات حينما كان الزمن زمن المشي على الجمار بأقدام عارية، أما وقد هان كل شيء في هذا الزمان الأغبر، الكل أصبح يركب صهوة النضال بدون لجام ويسرح ويمرح على هواه دون أن يأبه لأمره أحد. راودته فكرة طرق باب العانس التي تسكن فوقه، ربما تبدد حيرته، فهي دائما ما كانت تتودد إليه بنظراتها عسى أن يطرق بابها يوما لينهي؛ ولو لحين؛ جفاف مخدعها الحزين. اقترب من بابها وطرق طرقات خفيفة وهو يلصق أذنه بالباب:
ـ مساء الخير آنستي ليلى، معذرة على الإزعاج، أريد فقط أن أعرف ماذا حدث حتى يمنعوا الناس من الخروج؟
سمع نقرات حذائها وهو تسرع بالاقتراب من الباب:
ـ انصرف يا لعين ! سنين وأنت تتأفف من النظر إلي، والآن تأتيني عندما حاصرك كورونا، ماذا أفعل بك الآن؟ هيا انصرف!
   نزل الأدراج خائبا، يلعن نفسه على وقوعه في هذا المطب المخزي. ماذا عليه أن يفعل الآن، وساعة حظر التجوال اقتربت وهو فارس الليل، لا يخرج إلى المدينة إلا إذا اتشحت بالسواد. منذ سنين لم يعد يعرف شروق الشمس من غروبها، دائما ما يخرج كذئب شريد يطارد قمر الليل والأضواء الخافتة التي تحوم كفراشات على موائد الشراب. ما أن يسترسل في الشرب حتى يفتح ملفات نضاله وسنوات اعتقاله وغنيمته من مجلس المصالحة والإنصاف ونصيبه من مغادرته الطوعية لمهنة التعليم المقرفة. ما أن تغلق الحانات أبوابها، يجمع ما تبقى من أعضائه سالما تحت معطفه الرمادي ويقطع مسافة ثلاثة كيلومترات مشيا على الأقدام، تارة محدثا نفسه وتارة مغنيا، وعندما تكل قدماه، يسند ظهره على عمود كهربائي، فيدير لوحده حلقة جدال سياسي، ثم يختمها بشعارات ثورية وهو يطوف على العمود رافعا شارة النصر. تمر بقربه دوريات الشرطة، فلا يترجل أحد منها ليحقق معه أو يستفسره، حتى قُطاع الطرق عافوا اعتراض سبيله. القطط وحدها من تترقبه عند باب العمارة متلهفة لنهش قطع الكبد النيئة التي يلقي بها بعيدا؛ بعد أن يخرجها من كيس مخبئ في معطفه. يتفرج على هراشها واستفراد أقواها بالنهم، وبقاء أضعفها ينتظر مِنّة الذي شبع، ينفجر ضاحكا وهو يتابع عراكها، ويقول لبواب العمارة الذي يفتح له دائما الباب وهو يفرك عينيه: "تعلّم الدرس يا حميدو، انظر ! الحياة كالطعام المُقدّمٌ لكل الناس، لكن الأقوى لا يريد أن يتساوى مع الجميع، يريد أن يأكل لوحده ويشبع ليمتلك ترف الشفقة والرحمة على المحرومين"، ثم يقبض بخناقه ويشده بعصبية ويقول "هل رأيت بئيسا مثلك يشفق على غني؟ مثلك يتمسحون كالجراء ليلقى إليهم بالفتات، فليست لهم أنياب حادة ليعظوا على اللحم النيئ". خطرت بباله فكرة المناداة عليه لاستفساره، لكنه يعرف حذره وخوفه في مثل هذه الظروف، سيبتلع لسانه عند أول سؤال. ماذا عليه أن يفعل وليس في بيته طعام ولا في جيبه سجائر؟ أيخرج ويعرّض نفسه لرصاصة طائشة، لضربة عصا في مفصل الورك، تقعده ما تبقى له من العمر على كرسي متحرك بدار العجزة؟ أم سيبقى قابعا في جحره كفأر ذليل يرضى بالموت جوعا خوفا من مخالب هر؟ ماذا لو يصعد الطابق الخامس ويطرق باب قائد الشرطة، سيستقبله ولن يرفض له طلبا، فهو الوحيد الذي يبادله التحية وخداه تحمر خجلا بعد أن اكتشف خنوثته المخبوءة في زي الشرطي الحازم، عندما صادفه قبيل الفجر أمام باب العمارة وهو داخل سيارته يمحو سمته الأنثوي، ويخفي شعره المستعار وحمالة الصدر؟ قفز خارج البيت وامتطى مسرعا الأدراج حتى وقف على بابه، طرقه طرقة ثم طرقتين، وقبل أن يرتد يائسا على أعقابه، سمع نحيبا شجيا ، دنا من الباب وأرخى سمعه، تناهى إليه عويل ملتاع يتحرق حسرة، وقبل أن يطرق الباب مرة ثالثة، وضع يده على مقبض الباب فاستدار، مشرعا أمامه غرفة فسيحة،ضوءها خافت ورائحة احتراق تخنق الأنفاس تنبعث من موقد النار المشع على يساره في زاوية البيت. امتدت خطواته متعقبا صوت النحيب، استدار يمنة، فرمقه جالسا على منضدة الزينة بلباسه الأنثوي، مشعث شعر طويل انسدل على ظهره وهو يلطخ وجهه بأصباغ المكياج  ويبكي بحرقة. اقترب منه ووضع يديه على كتفيه يحاول تهدئته: "هوّن عليك، سيتوقف الحظر قريبا وسوف نخرج إلى ليلنا كما تشتهي نفوسنا". استدار نحوه وتطلع إلى وجهه،  فاشتد نحيبه وشهيقه المتقطع، هزه الشجن فاقترب منه يسمح عينيه، فأوقفه وألقى به في حضنه ليفرغ كل ما في صدره من غم. بعد أن هدأ روعه، اتجه صوب المدفأة وأخذ يحرك أحشاءها بقضيب حديد، وقبل أن يسأله عن سبب الرائحة قال: "لقد أحرقت البدلة ولن أخرج لخنق أنفاس  الناس بفرض الكمامات والضرب عليهم بأسوار العزلة والصمت، طيلة سنين وأنا مخنوق في هذه البدلة الكئيبة، كورونا اللعين حررني وسجنني، لن يخبو هذا الوباء حتى يقتلنا أو يصيبنا بالجنون". نظر إليه باستغراب وهو في ذهول لم يصدق ما سمعه: " ماذا؟ وباء؟ عن ماذا تتحدث؟". واجهه بنفس الدهشة: " ألا تعلم أن العالم بأسره مسجون في بيته خوفا من عدوى الوباء، والشرطة والجيش يحرصون على بقاء الناس في بيوتهم وحمل الكمامة عند خروجهم وبترخيص محدد المدة؟". نظر إليه في جمود التماثيل وسرعان ما اهتز مقهقها وشادا على بطنه مخافة انفجارها، "كيف؟ علينا أن نخشى الوباء والشرطة معا، اتفقا على حبسنا في بيوتنا ". انقلب البكاء والحزن إلى ضحك هستيري رددت صخبه جدران الغرفة. بعدها عم صمت رهيب، كل واحد وجه سهم عينيه نحو الفراغ دون الالتفات إلى الآخر. هو غرق في التفكير والشرطي يعبث برماد البدلة بعد أن تبخر دخانها. اقترب الشرطي منه وسأله: "ما العمل الآن؟ أنا الآن محكوم علي بالسجن والطرد من المهنة إن لم أجد حلا سريعا يخلصني منهما ". كأنه لم يسمع كلامه فلم يستدر نحوه، فغر فاه كمن يريد التقاط أنفاس هاربة من صدره المخنوق برائحة الدخان، خطا خطوتين وقال: "كيف ظللتُ طيلة هذه السنين مسطولا، سجين الليل والحانات ولم تشرق عليّ شمس الحقيقة، كنت أهرب من نفسي ومن لعنة الخذلان، سرت فيّ دودة العبث بعد أن تحطمت كل عزائم المكابدة والصبر. صرت بهلوانا في سيرك فارغ تسخر منه الكراسي وأضواء المصابيح الكئيبة". وتوجه نحو الشرطي وقبض علي يده بشده وقال: "هيا سنخرج، كفى من هذا الكذب على نفوسنا، نموت أو نسجن، لكن لن نرضى بمزيد من الكذب، البس لباسك الأنثوي وأنا سألبس زي البهلوان الذي أخفيته منذ خرجت من السجن، كنت مهرج المعتقلين الذي يمثل دور رئيس البرلمان بمطرقته الكبيرة". خرجا والليل وحده يشهد على خطواتهما المتجهة صوب نافورة لافونتين بشارع الحسن الثاني، ما أن بلغاها حتى ارتميا وسطها وهم في قمة النشوة.
ذكرت جريدة "الصباح" يوم غد، أن مدير الأمن كذّب بشدة ما تداولته بعض الأقلام المسخرة من جهات أجنبية عن اعتقال شخصين شاذين خرقا حظر التجول ليلا، وأكد على أن المغاربة شعبا وحكومة ملتزمون بالحجر الصحي، وأن من يقول غير ذلك يعتبر معاديا لوحدة المغاربة والتفافهم حول حكومتهم الرشيدة، وأن كل ما ذُكر مجرد ترهات يرددها بعض الكتبة المغرضين الذي أفقدهم نجاح الحكومة المغربية صوابهم في محاصرتها الوباء بعد أن اقتدت بخبرتها دول العالم.                           
                      

إرسال تعليق

0 تعليقات