(إلى كل الأصدقاء في معازلهم بالبيضاء والرباط وفاس وغفساي)
دائما يتابعني بنظراته ويرخي السمع لسعالي الحاد وهو يقتعد كرسيه المتحرك أمام باب بيته حاسرا ساقية أمام شمس الظهيرة الحارقة وأنا أعبر سريعا ووحيدا هذا الممر الضيق، والكل قابع في محجره يرتعش خوفا من زئير كورنا المتردد صداه في كل الأجهزة. كانت مخالب الجوع تفتك بي وتدفعني دفعا للخروج كفأر تترصده أنياب هر حادة، وأنا الطعام المشتهى لكورنا اللعين، يستطيع بيسر أن يخمد أنفاسي بعدما أطفأ لهيبها الربو اللعين. لكن هذه المرة نادى عليّ وطلب مني الاقتراب منه متعللا بضعف سمعه، وعندما دنوت منه شد على يدي، فأشحت عنه حتى لا يصيبه بصاق سعالي في وجهه، ابتسم وقال: "لا عليك، أنا شيخ عجوز، لم تلمس قدماي الأرض منذ عشر سنين ولم أتجاوز هذه العتبة، كنت ألعن وحدتي حينما كان الجميع يركبون أقدامهم وسياراتهم ويسرحون فوق هذه البسيطة وأنا أظل معلقا بين الكرسي والسرير، والآن مللت عشرتهم وسئمت من شيخوختي وعجزي. سمعت بتفشي الوباء، فطلبت منهم أن يخرجوني نحو الباب، لعلي أصادف هذا الكورونا عابرا فيخطف روحي". حدجته بنظرة حادة ونزعت يدي من يده وأغلظت له القول:"أنا لست كورونا، هل جننت؟ أنا مصاب بالربو، هو الذي يخنقني". أخرج عينيه من محجريهما الناتئة وفتح فمه الأدرد على سعته ثم أخرج نفسا عميقا وقال:"انظر يا ابني، أنا لا أريد هذا السجن الذي أقعدني في البيت كسيحا، كم تمنيت أن يحمل حفيدي وسادته ويخنقني بها وكل أفراد العائلة في هزيع من الليل نيام، كم شتمته ولعنته كي أشعل نار الغل في نفسه حتى يبادرني بموت رحيم، كم مرة حاولت قطع حبال معصمي لكن الدم أبى أن يفور، كم وددت أن تدهسني سيارة لكن دربنا لا تعبره إلا الأقدام، هل جربت مرة يا ابني الانتحار؟" نظرت إليه مستغربا ثم صمتُّ برهة لأستجمع فكرة قرأتها مرة، لا أدري من قائلها: "ماذا دهاني لأنتحر والدنيا كلها متعة وجمال، لم تمت حواسي بعد ولم أفقد بعد يقيني ولا إيماني رغم مرضي المزمن"، نظر إلي نظرة ساخرة: "كم عساك ستصبر معتكفا في البيت، شهرا، شهرين؟ لن تتحمل كثيرا، السجين الذي يُعزل لوحده في زنزانة يشنق نفسه بحبل أو يكسر رأسه على قضبان باب السجن إن لم يجد سبيلا لشفرة حلاقة أو سكين يفتح بهما أوردة معصمه". غادرته غير مبالي بكلامه، ولم أعد أراود ذلك الممر في طريقي نحو إحضار الطعام قبيل انطلاق صفارات حظر التجوال. مر شهر وتلاه شهر آخر ونحن في حجرنا الصحي، أخرج لماما لأتدبر قوت يومين أو ثلاثة وأعود كسيرا لأتابع ازدياد أرقام الموتى والمصابين وارتفاع أسهمها في بورصة المشفى العالمي. الكل هاجع في سريره، سليما كان أو مصابا، يقيس درجة حرارته وانحباس نفسه، يطل إلى الخارج من النافذة أو عبر التلفاز أو الموبايل، ويغرق في صمته رويدا رويدا حتى يمتد الشلل إلى يديه ورجليه فيشلهما عن الحركة. وعوض أن أخرج مرة كل يومين، بدأت أخرج مرة كل أسبوع، ثم كل أسبوعين ثم كل شهر، ثم اعتكفت في البيت بعد حظر الخروج نهائيا وانتظار قدوم الموزعين للطعام بالبيوت. ضيعنا عالمنا الخارجي واكتفينا بالنظر إليه عبر الشاشات. لم تعد الأرض تهتز تحت أقدامنا ولم يعد يضنيها ثقلنا، تركناها للفراغ وبطء السكون ورهبة الأمكنة المسكونة بصفير الرياح العابرة. فقدت رغبة النوم والأكل حتى اللباس سجنته في الدولاب وتركتني للعراء كفقمة تزحف على صفيح جليد. المحارق ازدحمت بالموتى وأنا لم أمت بعد، سئمت هذا الانتظار الممل، وودت لو يقصفونا براجمات وينتهي كل هذا العبث، لكنهم يريدوننا أحياء كفئران المختبر، يخرجون كل يوم فأرا يذيبونه في محلول لتستمر متعتهم في ملعب العلوم. لم يعد كورونا يرهبني، ربما هو سبيل حريتي وخلاصي، تمنيت أن أسرق قبلة من فم يفور بزكام الكورونا وصدر يهتز اختناقا بلهيبه، فلذة عذابه أخف احتمالا من هذا السجن الخانق. يوم أعلنوا بمكبر الصوت أن العلماء في طور صنع لقاح مضاد للوباء وبضرورة التحلي بالصبر شهرين كاملين قابلين للتجديد، تذكرت ضحكة العجوز الكسيح وهو على الباب ينتظر من يسعفه بكورونا، خرجت عاريا نحو سطح العمارة وكل آذان سكانها على أبوابهم يتابعون صعود خطواتي الثقيلة وسعالي المتواصل، ما أن فتحت بابه، لفحتني شمس حارقة وأشعة عامية للأبصار، وقفت على حافة الجدار وفتحت ذراعي كالمصلوب يوم الجمعة الحزينة، وقفزت في الهواء، لم أنتظر طويلا، رأيت فقط ظلي قد غادر المكان وهو يطفو فوق المدينة الغارقة في الصمت.
مراكش ليلة 31 مارس 2020
إرسال تعليق
0 تعليقات