هروب متعمد| قصة للكاتبة المصرية: لولو عبد الرحمن





تنبهت من شرودي الحزين على صفيره وهو يمشي هويناً معلناً عن رحلة العودة وأرجحة كراسيه الخشبية المتهالكة ...  فأرفع عيناي المتعبتان من كثرة السهر  إلى كل الجنبات  بلا اكتراث لأرى مشاهد متداخلة لباعة جائلين بأصواتً صاخبة خشية على بضاعتهم الملاقاة على أرضية القطار خوفاً من دهس أحدهم أياها وفي الكرسي الأمامي مجموعة من الشباب الضاحك بأصواتهم العالية دون اعتبار  وآخرى لسيدة لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها نائمة في سبات تضم بيدها رضيعها التي تجول عيناه مثلي في في جنبات القطار و تلهيه الأصوات عن غياب امه ..  وأحاول ألا يشدني الشرود بعيداً كي لا تسرقني الذكريات ولكن تتلاشى جميع الأصوات رويداً رويداً ليتبدل مكانها صوت صبي يضحك في صفاء فيبتسمُ سني قليلاً ثم أنتبه وأحاول الرجوع ثانية إلى ضوضاء القطار ولكن تلك الضحكة أسرتني ورجعت إليها بصورة أوضح من سابقتها  لأراه بعيني وهو يضحك ويناديني  فأسرع وراءه محاولة امساكه وأكاد أقع فيقف مكانه وتشدني ضحكته ساخراً مني ملوحاً بيده الصغيرة الكف فأعاتبه وأنهره محذرة أياه بأني لو أمسكته فسأبرحه ضرباً ولكنه بصفاء عينيه يعلم بأنني أكذب عليه وأنني عندما أمسكه سوف أحضنه  ..   فاراه يهرول بعيداً عني ويتبدل ما بداخلي من هنيئة إلى خوفٍ وأناديه أن يرجع ثانية .. فيضحك ويسألني بصوته المبهج ( هلا أتيتي أنتي وامسكت بي  وتتعالى ضحاكته مبتعدا وتنتهي بعيداًً بين عيدان القصب الأخضر .. فأمط شفتي بغيظ أهْ لذلك  العنيد .. كل مرة يجرني وأحذره  ولكن يعيد الكرة كأن فرحته لا تكتمل إلى بشقائي بالبحث عنه.
ولكن ذلك اليوم لم أجده .. وبحثت كثيراً  بين عيدان القصب الطويلة الممتدة بعيدا وأنادي اسمه عله يجيب صوتي الخائف المتلهف لتلك الضحكة ثانية  وأهدئ نفسي لا عليك سوف يظهر في أي لحظة من بين تلك الأعواد فجأة لتنتفضي ككل مرة  من الفزع  و يقول بخ ويضحك ففي كل مرة يفعل هذا ويتأخر كل مرة عن قابلتها ولكن هذه المرة أزيد بعض الشيء حتى تزيد متعته  .. ولكن ينبهني عقلي على صوت من بعيد فأجري وراء الصوت مفزعة وكل ما يدور في خاطري عنه وهل أصابه سوء أم كلها هواجس أفكاري الحمقاء .
وينتهي بي المطاف إلى شريط السكة الحديدي والناس واقفة يستنكرون ويصرخون ويبكون ويقول أحدهم أنا رأيته أنه طفل صغير كان يلعب على سكة القطار  وحاولت تنبيه والآخر بحزن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله . ما بين معاتب وباك وحاك وأنا أصرخ اخي ... أين هو أين ذهب وأرى الناس تلتف حولي وتسألني الصبر .. عما يسألوني عن عمر فارقني أم ضحكتي الضائعة مني أم قلبي المنزوع من ثنيايا .. أيسألونني الصبر وكيف اصبر والأه تعصرني تكاد تقلني ولو رحمتني لبفعل قتلتني . ولكنها للأسف تركتني حتى هذا اليوم لأرجع ثانية للتك القرية التي أبعدني عنها الغدر  .. وها أنا أترجل من ذلك القطار اللعين إلى قريتي التي لم أفكر فيها يوماً منذ رحيلي عنها وعند اتجاهي إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى منزلي وجدت صبية يلهون ويضحكون وآخرون يقمون بحفر الطريق سألتهم هل هناك مجال حتى أمر ولكن للأسف .. فلم أجد طريق سوى من هناك نعم من نفس المكان المرور بداخل تلك الأعواد للمرة الثانية لأذهب لمنزلي وعلى مضض مني ذهبت وقلبي يدق متسرعاً بضيق وعيناي تخشى من شيء ولا تبوح وعقلي يسألني الثبوت وبالفعل هاهي الأعواد كعهدي بها كأنها لم تحصد أو تنبت من جديد و أرى شيئاً بعيداً يلوح لي ويهيئ لي عيني بأني رأيته فأذهب راكضة وراء السراب وتقع ضحكاته في أذني ولكنه يعاتبني على الرحيل ويسألني ألم تشتاقي لي يوماً فأنا في انتظارك من بعيد فأحاول ارضائه دون رضاء .. ولكن يحن قلبي وأتستنشق هواءً محمل برائحته بين أعواد القصب وأبتسم واسترجعت رسمات وجهه الطفولي وضحكته البريئة وعتابه لي فأحسه بين أحضاني يسرى بدمي وأحيي أرضاً حملت ذكراه حين نساه عقلي خشية تذكر الوداع  وأجدني افترش الأرض بثيابي البيضاء وأحمل بين يدي ذرات التراب وتسألني نفسي في عتاب لما الهرب أمن ذكريات هي هبة الخالق لتذكرنا بعهودٍ مضت فتألمنا تارة  وتارة تملؤنا بملامح الغائبين عنا وتحيي بداخلنا ذكراهم بما فيها من أفراح وحزن وتشاجر وأجدني راضية فكيف أهرب والهرب تسكين الخائبين.

إرسال تعليق

0 تعليقات