في مكانٍ بعيد ، تحت ظلال ناطحات السحاب الزمردية، وبين المروج الوردية، يعيش القزم سمير في كوخ قد بناه بشغفه وكيانه السعيد، ليختبئ من هموم الدنيا ، هارباً من عيون الشياطين البشرية التي ترمقه بنظرات السخرية اللأخلاقية ، ليبقى نظيفاً من تلوث الألسن ووسخ العقول الجهنمية. الجدران والأرضيات وكل شيء من حوله مصنوع من الصخور الجميلة ،متألقة لامعة بجميع ألوان قوس قزح. وهذا الجمال ، الذي تمتلئ به الحياة اليومية ، لم يتم إنشاؤه على الإطلاق بسبب الرغبة في العيش في ترف،وإنما للهرب من نكد الحياة. فمنذ تلك اللحظة التي فاض قلبه بالجوارح القاتلة، المدعّمة بالتجبر و التكبر على تكوين الخالق له، والتي تلقاها من أهل قرية العمالقة و طوال القامة ، تعهد ذاك القزم البريء أن يصبح الملاك اللامرئي و الطير المسافر الحزين. عاش حياة بسيطة ،فكان يتدفئ على حرارة الشمس و يرتوي من قطرات الندى النقية، و تبنّى الأرض لتكون ابنته الوفية ، فكان يعتني بها كاعتناء الأم لرضيعها، يزرعها، يسقيها، فحوّلها لجنّة سحرية ، تطعمه و ترويه من كنوزها الخضراء البقولية و العشبية. فعاش حياة هادئة ،هامدة لا ضجيج و لا قلق فيها. ولكن قصر قامته كان العائق الوحيد في حياته و كان الماضي و الحاضر المرير له ،إلى جاءت تلك الليلة المرصعّة بالنجوم اللؤلوئية ، و عندما كان ممدّد على سريره العشبي يتأمل الفضاء الواسع ، و إذا بشهب الأماني يسطع في عينيه، فيردد فمه و بدون تفكير:《 أتمنى أن أصبح طويلا!!》.في اليوم التالي، استيقظ سمير المحظوظ، ليتفاجئ بما حصل له. ها هي أمنيته تحققت! و كوخه الصغير قد أصبح بيت لألعابه القزمية: 《ماذا؟!! أصبحت طويلا ! أصبحت بشريا طبيعيا! تحققت أمنيتي؟!!》 خاطب لسان حاله، و الزغاريط قد دوّت في أعماقه لتوقظ الوحش العملاق الكبير. مشى متفاخرا بما حل عليه من نعمة ، و قرر زيارة القرية بعد زمن طويل، ولكن الآن سيزورها سمير الطويل لا القزم الصغير المنبوذ، رافع الرأس، باسم الوجه ، عريض المنكبين ، مديد القامة ، فارع الطول، بارز العضلات وكأنه الجبل الشامخ الكبير. فما إن دخل القرية،حتى تفاجئ بالسكون الهالك الذي حل عليها و الصمت الذي أحتل أحيائها و منازلها! إننا في وضح النهار أين السكان؟! أين طوال القامة !؟ أين الباعة و التجار؟! لما لا أسمع سوى عواء الكلاب الضالة؟! لما لا أشم رائحة التنمر و التكبر !؟ أين المتفاخرين بقامتهم الطويلة فقد أصبحت أحسن حال منهم الآن!!. فأخذ يجول بين أحيائها و شوارعها يفتش عن روحٍ بين أطياف أزقتها المهجورة. و إذ برجل قصير يأتي من بعيد ، ممتلئ الوجه ، كثيف الشعر ،واسع العينين، ضاحك الوجه، أبيض البشرة! ولكن ضحكته لم تطول فقد زُرع أمامه مارد بشري في قرية قاتلة للعمالقة و طوال القامة . هب سمير مسرعا نحوه ، و وجه مليء بعلامات التعجب و الاستفهام و قبل من أن ينطق بكلمة واحدة! قال القزم الحكيم:《لا تتكلم ! و لا تتعب حنجرتك بالثرثرة فشكلك غريب عن المنطقة و لا تعلم بما حل بالقرية و أهلها منذ زمن بعيد! 》و أكمل حديثه قائلاً أن قرية العمالق هذه كانت من أشهر القرى الموجودة في المنطقة من حيث تجارتها و تصديرها و كنوزها، وأيضا من حيث رزالة شعبها المتباهي ب طوله و كأن الله خلقهم و كسر القالب من بعدهم! ولكن لا جبار إلا هو الكبير العالي، فمن شدة تنمرهم و إزعاجهم لصغار القامة وما كان يفعلونه بهم من مقالب و سخرية، أنزل الله عليهم لعنة 《فليَمُتْ المتفوه الطويل》 ،أي أن كل إنسان طويل القامة يدخل هذه القرية الملعونة و يتفوه بكلمة واحدة يهوي أرضاً بلا نفس ولا روح قبل أن تنتهي كلمته!!! بعد سماع سمير لحديث هذا الرجل الصغير انصدم انصداما كليا، فالنعمة التي أعتز بها منذ ثوانٍ إنقلبت على رأسه نقمة و لعنة!! و إذا به يكمل طريقه صامتا ،خائفا من ان يصدر نفساً يرافقه همس حنجرته فيطب ميتا على وجه الأرض!! ولكن تفكيره لم يصمت وظل يصرخ في أعماقه:《 ما الذي فعلته بنفسي ! كنت أعيش عيشة الملوك الأقزام في كوخي، حياة هادئة ،و منعمة بخيرات الطبيعة ، ولكن عدم ثقتي بنفسي و قلقي أوصلاني لهكذا طريق ملعون ! ...》 وعلى الرغم من حرصه الشديد من أن لا ينطق بالكلمات ها هو سمير الطويل يصطدم بعامودٍ كهربائي فيصرخ بأعلى صوته 《آخخخخخخخخخ !!》فإذ به يهوي أرضاً من على سريره الصغير في كوخه الملوكي المنير. فينهض مسرعاً من كابوسه المزعج مُقبلاً أرضه ، شاكراً ربه على نعمة شكله ، تاركاً حقه بيد الخالق ، فالله بعباده بصير!!!
إرسال تعليق
0 تعليقات