رحيق| قصة قصيرة للأديبة: تبر العرباوي





كخُفوت المساء...كغيم الشتاء...كضباب صباحات الجبال, كهاجرة الصحراء...ماذا تكون تلك المساحة من جسد النهار؟ أوّله...أم آخره, أو لعلّها منتصفُهُ ؟
ليس واضحا أبدا...ماذا يكون ذلك الفصل من السنة و لا رائحة غير رائحة الدماء, و لا عبير غير عبير الموت و لا على الأرض غير الجثث, متناثرة أعضاءها.
من أين جاءت؟...حافية القدمين...مشعّثة الشعر, ممزّقة الثياب.
أين كانت...؟ حتى هي لا تعرف...لا تعرف غير غريزة ناريّة تدفعها للبحث.
جالت بين ركام الأشلاء...قلّبتها, جاحظة العينين, مرتجفة الأطراف..., كل الجثث دون رؤوس, أين ذهبت الرؤوس ؟
...هي هناك, غير بعيد, على عكس أجسادها, بُنيت بشكل مرتّب و أنيق لتشكّل هرما ضخما, يتربع على قمته شيء ما .
ربما كان رجلا في يوم من الأيام...
 كانت تتأبّط حزمةً بيضاء و تبحث,... الحزمة ثياب طفل غاب عن حضنها في مساحة لا تستطيع تحديدها, من يوم لا يُعرف أوّله, و ليست تُرى بوادر آخره...
من بين الأشلاء بدأت تجمع أعضاءه...جمعتها كلّها حتى الرأس.
جلست على الأرض, فتحت حزمة الثياب البيضاء و فرشت قماطا و قطعا مطرزة من القماش, وضعت فوقها الأعضاء منسّقة و قمّطته و ضمّته إلى صدرها و مضت إلى ركن ما في ذلك المكان.
و ضعته في مهد جميل و أخذت تغني له و تهدهده.
هل كانت تبدو مطمئنة...؟
هل كانت فاقدة للوعي بما حولها...؟
أجالت نظرها مليّا و قالت:
- ثياب جميلة طرزتها بيدي و نظيفة لم تلطخها الدماء و لا وطأتها الأقدام و استمرت في تراتيلها و ترانيمها المُبهمة...و غنّت عن ورقاء و عن مقامات رفيعة, و أطلقت حروفا منفردة.
تزلزل الهرم و انتفضت الأشلاء, فصرخ فيها ذلك الشيء المتربع على الهرم:
- اخرسي, متى عدت من منفاك ؟
- قالت: لم أعد .
- قال : فماذا تفعلين ؟
- قالت : ما ترى, و عادت لهدهدة الطفل .
فصرخ فيها بصوت أعلى وأحدّ :
- دعيه متلائما مع المكان و الزمان, لم تريدين أخذه إلى منفاك أيتها المعتوهة ؟
غير أنها لم تسمعه ربما, أو ربما تجاهلته و استمرت تغني عن الورقاء و المقامات الرفيعة و تزخرف تراتيلها بحروف منفردة.




دمشق 07 جوان 2006
تبر العرباوي 

إرسال تعليق

0 تعليقات