«عندما يعزف القدر» قصة للكاتبة اللبنانية: ريان حسين ماجد



 
   لكلّ واحدٍ منا حصته من النجوم اللامعة في السماء، فداخل كل نجمة، ريشة سحرية نرسم بها القدر. أحياناً يصعب علينا إلتقاطها، وأحيانا أخرى تُقفَل بمفتاح الغير، يفاجئنا بمنعنا من الوصول إليها، أو يسرقها منّا، فيغير لنا رسمتنا، أو يلونها بالألوان التي يريد. وهنا تبدأ اللعبة، لعبة القدر. ولكن ماذا إن لعب القدر لعبته بقوة حاسمة، وانتصر على الأداة فرحاً، ثم أتاه بعد ذلك جيشٌ من الألحان السامية، متوجه نحو الرسومات التي غُصِبت، ليُضفي عليها ألوانه الجديدة و يغيّر كل شيء... كل شيء... بعزفة واحدة؟!
من جملة الرسومات تلك، رسمة 'أحمد'، التي لطختها الحياة بأبشع أنواع الألوان، وغيرت معالمها بأقلام الغدر والوجع.
أحمد رجل متزوج، رُزق بفتاة في غاية الجمال وأسماها 'حلا'.
ولكن للأسف، لم تكمل فرحة 'أحمد' ،أصيبت زوجته بمرض عضال أرماها في سرير المشفى لسنوات.عانت 'رغد' ما عانت من الألم والأوجاع، فكانت كالوردة التي مُنع عنها ضياء الشمس، فراحت تذبل يوما بعد الآخر. وفي يوم ذهب أحمد لزيارة زوجته، كانت حالتها مزرية جداً. ها هي الريشة السقيمة مجددا،لونت عيناها بالسواد، وجبينها باللون الأصفر الشاحب، ونزعت من خديها اللون الزهري، وزادت على المعالم خطوط التعب والإرهاق.
-"أحمد.." قالت بصوت ضعيف.
-" يا قلب أحمد النابض، ها أنا أسمعك..." قال أحمد.
-" أحس بنفسي قد انكرست، والكسر هذه المرة قوي جداًّ، لا تستطيع ترميمه، ولا حتى معالجته، من هذا الكسر ستخرج روحي التي أحبتك كل أيامها، من هذا الكسر وجدت روحي لنفسها طريقا إلى العالم الآخر..!!" قالت رغد والدموع قد خُطّت على وجهها.
أمسك أحمد يدها، راح يقبلها، وانذرفت القطرات من غيمة عيونه الماطرة.وبينما هو كذلك عزف القدر بلحن مميت هذه المرة، فانتبه أحمد إلى صوت قلب رغد الذي توقف عن النبض، منبها إياه بصفارة موت.
رحلت رغد عن الدنيا، وعاش أحمد أقسى أيام حياته، فالمعشوق قد غادر العشيق، وتوأم الروح قد ذهب في رحلة بعيدة. في يوم وبينما هو يضع حلا في سريرها، رن جرس الهاتف، ها هي أم أحمد و بفمها خبرٌ لا تستطيع أن تكتمه بعد الآن. حمل الهاتف، توجه نحو الشرفة ليتحدث معها وفي هذه الأثناء كان ينظر إلى اللوحة السوداء المزينة بنجومها الخلابة، التفت نظره إلى واحدة ولكنه للأسف لم يستطع أن يأخذها وتحولت نجمته إلى نجمة مغصوبة مجددا.
لم يتحمل أحمد الخبر،أغلق الهاتف وهو منزعج جدا، ثم توجه نحو حلا ضمها، وصار يفكر بكلمات أمه الواحدة تلو الأخرى...
... لم يذق أحمد طعم النوم تلك الليلة، وصار يفكر بطلب أمه القاسي على قلبه. وفي الصباح توجه نحو أمه ليتحدث معها حيال الأمر.
-" أمي.. كلماتك البارحة كانت كالسيف الذي مزق نياط قلبي.." قال أحمد.
-" أرجوك بلا هذه الدراما التي تفعلها كل مرة.... رغد ماتت ولكنك لم تمت، ولديك طفلة عليك الإهتمام بها جيدا... لذا عليك بالزواج... وأما أن تضعها عندي كلما ذهبت إلى العمل لأهتم بها وأرعاها لك، فهذا الأمر لم يعد يناسبني بعد الآن.... " قالت الأم ومعالم وجهها تحتاج إلى خبيرٍ لتتفسر.

-" ولكن يا أمي هذا صعب جدا، للآن أنا لم أستطع أن أتخطى الأمر"!!

-" لا جدال... إما أن تأخذ ابنتك إلى غيري فيرعاها لك، وإما أن تتزوج وتكمل حياتك بشكل طبيعي.. هذا كل ما عندي... ومع السلامة!!"

كانت كلمات أم أحمد جارحة جدا، ملونة أيضا بريشة القسوة الداكنة. ظل أحمد يفكر لأيام بالموضوع وعندما وجد نفسه بلا حل، قرر أن يقوم بهذه الخطوة غصباً. راح أحمد يجمع أغراض رغد في صندوق ليضعه في غرفته، وبينما هو منهمك به، وقع من الصندوق عقد فيروزي جميل ساحر، حمل أحمد العقد بيده وقبّله، وروحه صارت تتراقص على نغمات الحب التي أصدرتها نبضات قلبه. أحب العقد البحري الأزرق أن يهديه حصة من الحب أيضا، فأخذه إلى سفرة عشق زمنية، إلى سلسلة من الذكريات والصور التي أمضاها مع رغد وهي تتألق بذاك الفيروزي الأخّاذ.

-"أبي.... أريد منك هذا العقد أرجوك.. إنه رائع للغاية.." قالت حلا بشغف.

-" بكل سرور يا صغيرتي!" ثم ألبسها إياه والدموع تنهمر على خديهما.

مرت الأيام، تزوج أحمد بميرا، الفتاة التي كانت أمه قد طلبتها له. ميرا كانت جميلة الخارج، قبيحة الداخل، لا تمت للإنسانية بصلة. دخلت على هذه العائلة كالسمِّ الذي يقطَّع الأحشاء ويفصلها عن بعضها البعض، فهي لم تقصِّر طبعا في فصل أحمد عن حلا كلما أرادت وكيفما أرادت.
عندما كان أحمد يذهب إلى العمل، كانت تقوم ميرا بضربها وأذيتها وعندما كانت تصرخ حلا لتستنجد بأحد، كانت تجرها بقسوة إلى الغرفة المظلمة في المنزل وتغلق الباب عليها كي لا يسمع أحد صراخها أو يحس بها.
حاولت حلا مراراً و تكرارا أن تخبر الأب عن هول ما تعانيه مع ميرا، لكن ميرا بعقلها الماكر ، كانت تبرر لنفسها كل مرة و تختلق الأكاذيب والأعذار لتنقذ نفسها من الغرق في بحر شرها هذا. وفي مرة، طلبت ميرا من حلا أن تنظف المنزل بأكمله بأناملها الصغيرة، نعم فهي كحبة الفستق التي لم تنضج بعد، وجسمها النحيل لا يساعدها على ذلك. جلست ميرا على الكرسي مستمتعة بشر فعلتها هذه، حملت كوب العصير وصارت تشربه، ومع كل مرة كانت تتعمد أن تضحك بشماتة وتزعج حلا بضحكاتها الدنيئة العالية. أنهت حلا العمل، وقد أخذ التعب منها كل مأخذ، ولأن قبح ميرا الداخلي حائز على المرتبة الأولى في الشر، حملت إبريق العصير ورمته على الأرض وطلبت من حلا التنظيف مرة أخرى، لم تتحمل حلا ذلك، توجهت نحو الهاتف لتتصل بجدتها وتخبرها بالأمر، وبينما هي تحمل السماعة هجمت عليها ميرا ولفت الشريط حول عنقها و هددتها بالقتل.
ساد الصمت على حياة الفتاة، وكأني بها صارت تذبل كأمها. وفي يوم ضاعت من حلا كل النجوم، فقد أقفلتها ميرا بقفل محكم عنيف. وأخذت منها نجمتها المفضلة، نجمة 'الحياة مع أبيها' فقررت أن تتخلص منها للأبد.
-"أجاهز أنت يا سليم.... ؟"

-"نعم سيدتي، على أتم الجهوزية..."

-"ممتاز... وأخيرا سيكون أحمد لي وحدي.... لي وحدي أنا...!!!" وشرارات المكر تخرج من عينيها.

. - "أحمد، أود الذهاب اليوم مع حلا إلى السوق، أريد تمضية وقت جميل معها..." قالت ميرا.
-"بالطبع، هذا الشيء يفرحني كثيرا.." قال أحمد.

-"لا يا أبي، لا أود الذهاب، أنا متعبة جدا...." قالت حلا بحرقة.

-" صغيرتي، هذا اليوم يومك وأريدك أنت تستمعي به.. هيا جهزي نفسك دون كسل."

حضر سليم بسيارة الأجرة، صعدت ميرا وحلا إلى السيارة، وبدأ التواصل عبر النظرات والإشارات بينهما.

-"سأنزل أنا هنا لدقائق، لا تبرحي مكانك يا حلا... " قالت ميرا.

وما إن ترجلت من السيارة حتى انطلق سليم بها نحو أرض مجهولة.خلال ذلك الوقت كانت صوت حلا يصدح عاليا من داخلها، وصراخها كاد أن يكسر زجاج السيارة من حدته، دموعها تحولت إلى شرارت حمراء تخرج من بركان مآقيها.
أنزل سليم حلا، حمل السكين، وأراد أن يقتلها، ولكن ما إن نظر إلى عينيها الحمراوين، حتى سُحر بريشة الشفقة والأسى، أحس بإحساس مهول،اضطرب الرجل، وصار يرجف من شدة خوفه...
-"يا إلهي!!! كم أنا أحمق..." قال سليم.

-"يا عم.. أرجوك، أرجوك، ردني إلى بابا... أريد بابا...بابا..." حلا متقطعة أنفاسها.

-"لا أستطيع! أنا أحتاج المال، ولكن كل ما يمكنني فعله هو أن أضعك في أي ميتم أو أي دار بعيدا عن ميرا ليهتموا بك!!"

وبالفعل، وضعها في ميتم في أقصى البلاد، وهمَّ بالرحيل.
أما أحمد، فهوت نجمته وراحت تتكسر، أخبرته ميرا أنها قد أضاعتها في السوق، نزل الخبر عليه كالصاعقة،صار يبكي بكاء الطفل الفاقد لأمه، يمْسِكُ أحْشَاءَهَ، عَلى حُرَقٍ ويطفِئُها، وَالـهموم تُشْعلُه.....مرت السنين و محاولات البحث عنها باءت بالفشل... يئس أحمد... وتوشح بالسواد للأبد..
في هذه السنين، عاشت حلا في الميتم، كبرت، تألقت، وكانت موهوبة جدا. تدربت في نادي الموسيقى في الميتم وتمكنت من أن تبهر الجميع بعزفها. وفي الثامنة عشر من عمرها، انطلقت إلى الحياة، وحصلت على مفتاح جديد لنجومها المقفلة،نعم فقد جهزت جيشا من الألحان السامية يرافقها أينما كانت وكيفما أرادت، تأخذ منه مفاتيح الحظ والقوة، وصارت بذلك تحصل على ما تريد.
في يوم، وبينما أحمد يتناول العشاء مع زوجته في إحدى المطاعم الراقية، وإذ بالأنغام تحولت إلى يد سحرية، طرقت باب قلبه فصار ينبض بلحنها، وفتحت باب عقله، لتعطي الأمر لعينيه..... أن أنظرني يا أبي.. أنا حلا...أنا حلا مدللتك... أنا حلا التي جار عليها الدهر وأسقاها مرّه.. حرمتني منك الأيام ما حرمت ومنعتني عن لقياك لسنوات.. ها أنا الآن أمام عينيك...
التفت الأب، ذُهل بأحجار رغد البحرية على رقبتها...
-"ما هذا؟؟؟؟" والصوت قد مزق أوتاره...
-"العقد.... الفيروز الأخّاذ.... ابنتي.... حلااااااا.."
قلب الطاولة رأسا على عقب، توجه نحو حلا، أما الأخيرة فقد حضرت عندها الذكريات الأليمة، آخذة إياها إلى طريق الوجع، تحولت أنغامها الموسيقية الراقية، إلى أنغام مخيفة عنيفة، تذكرت كل مر ذاقته... وكل وجع بكت عليه الجراح.... حملت عود الفيولن وتوجهت نحو ميرا، غزته في شعرها، وراحت تعزف سيمفونيتها الجديدة... سيمفونية الإنتقام.... انتاب الجميع الخوف،وضج المطعم بالصراخ، على عكس حلا التي كانت تضحك عاليا كل مرة حركت بها العود. راح الدم يسيل من رأس ميرا، ثم وقعت على الأرض بعد أن أنهت حلا عزفها. وبعد أن انتصر الجيش على القدر، اعتبره رهينة، كبّل يديه، وسجنه في سجن مؤبد حارق بعيدا عن الأنظار....
طلّق أحمد ميرا، ولأن وسواسها الشيطاني قد سيطر على ما في داخلها، انتابها الجنون ووضعت في مستشفى خاص للعلاج....
عادت حلا إلى حضن أحمد، ووعدها أحمد أنه لن يسمح لأي شيء أن يفرقهما بعد الآن. لعب القدر لعبته ولكنه لم يكن أقوى من الموسيقى والألحان.. فعزفة واحدة غيرت كل المعالم... ووضعت كل ريشة سحرية في مكانها... قضت على كل المفاتيح الصعبة... وأضفت اللمعة والإشراقة على كل النجوم الراقدة في السماء.... يمكن أن يتغير العديد من الأشياء عندما يلعب القدر... ولكن تنجذب الأحداث نحو صوت الموسيقى العذب الرنان لتعيد الأمور كلها على ما يرام... هكذا عندما يزدان القدر بالألحان.. هكذا عندما يعزف القدر.....


إرسال تعليق

0 تعليقات