طريق العودة| قصة قصيرة| د. خالد محمود حسين





 لم يتبق من ذاته غير هشيمٍ مبعثرٍ يتوارى داخل خوفه ، فهو لا يريد أن يثير انتباه أحد لكي لا يأخذه ويرميه بعيدا، وحتى عندما يكون محظوظا وتُخطئه عيون الناظرين، لا يجعل من ذلك مناسبةً سعيدة بل يتحسر على نفسه كونه لم يعد جديراً بأن يكترث الناس لوجوده. مع ذلك، فأشد ما يزعجه هو قناعةٌ بدأت تتشكل بداخله أنه أصبح يزيد المكان قبحاً، وأنه حتما سوف يغادر ، راضياً كان أو كارها ،فالأنظار التي أخطأته اليوم لن تخطئه الى الأبد، ويوما ما ،سوف يؤخذ غصباً عنه إلى حيث لا يريد. استقرت في قلبه وعقله فكرة حتى الأمس القريب كان يصفها بالجنون ويقاومها، ولكنه اليوم اعتنقها كفكرة خلاصه الوحيدة، وهي أن يعود طائعاً لدوحته الخضراء التي هجرها منذ عشرات السنين، يعود بدافع الحنين أولا ثم بدافع الهروب. 
نظر في أمره طويلاً ، فمن ناحية هو لا يستطيع البقاء فالأخطار تهدده من داخل نفسه ومن خارجها، ومن ناحية أخرى فإن اتجاه العودة هو الذي تهب منه الرياح ولا يملك القوة الكافية لمغالبتها والسير عكس اتجاهها، خاصة وأن الطريق الأقرب قد انطمست معالمه بفعل العواصف والأنواء. تسللت إليه فكرة أضاء لها كل وجدانه فنفذها على الفور وانطلق مع الرياح في عكس اتجاه مقصده ، ولكن بميلان قليل جدا نحو الشمال لا تكاد الرياح تحس به ،وهو بذلك لا يعاند قوة دفع الرياح ويمكنه ،عبر هذا الانحراف المتواصل، غير المحسوس، أن يجعل طريق العودة دائرياً. 
في بداية رحلته كان يتجنب النظر إلى الأرض لأن منظر جذوع الاشجار وهي ضاربة بجذورها في أعماق الأرض يثير في نفسه الحسد والغيرة من حالة الاستقرار التي تعيشها هي ويفتقدها، يحسد الجذع حتى لو كان لشجرة يابسة، فلا يهمه أمر الحياة والموت بقدر ما يهمه الاستقرار. يدير بصره عن الأرض فينظر إلى الشمس والقمر والنجوم ، فهي، على عكس الجذوع والصخور، تشاركه الدوران في الفضاء الواسع ، فيشعر أنه جزء من المنظومة الكونية فينبعث في نفسه الشعور بالطمأنينة والرضا. استمرت هذه الرحلة سنوات طويلة فتبدل حاله وتغيرت ملامحه حتى أنكر نفسه، ولكن اسوأ ما حدث له أن ظهره قد تقوَّس وانحنى، ولم يعد يستطيع النظر إلى الفضاء العلوي الذي طالما استمد منه السعادة والرضا، وشاركه الحركة الدؤوبة ، فأصبح مكباً على وجهه لا يرى إلا جذوع الأشجار والصخور الثابتة التي تستفز مشاعر الحقد عنده. مع ذلك فهو الآن لم يعد مستاءً من حالة “اللا- وصول” التي يعيشها، لأنه لو وصل فلن يستطيع بظهره المحدودب أن ينظر نحو أعلى الدوحة بل سينظر فقط إلى الظل ويعيش فيه مع الأوراق التي اصفرت وذبلت وسقطت ويبست وربما ذرتها الرياح وأخذته معها إلى حيث أتى.
د. خالد محمود حسين
أستاذ الأدب الأمريكي بجامعة الخرطوم/ جامعة تبوك

إرسال تعليق

0 تعليقات